بمناسبة الاحتفاء العالمي بالذكرى الأربعمائة لصدور دون

مدريد- د. كاظم شمهود طاهر

رغم أن أسبانيا تمتاز بكثرة شواطئها ولطف جوها وشمسها الذي تهوى إليه نفوس ملايين البشر سنويا، إلا أنها أيضا اهتمت بالسياحة الثقافية. وقد جنّدت أسبانيا كل طاقتها في سبيل الاهتمام بالمراكز الثقافية والمتاحف الفنية وإقامة المهرجانات للاحتفال برواد الحركة الفكرية والأدبية والفنية في هذا البلد.

واليوم تحتفل أسبانيا بذكرى مرور 400 سنة على ولادة العمل العالمي الرائع "الدون كيخوته" حيث سميت هذه السنة 2005 بـ"سنة ثربانتس". وقد قامت الدولة بعمل مراكز سياحية ثقافية في المنطقة التي كانت تدور فيها أحداث الرواية والتي تسمى "كاستيا لا مانتشا". وهذه المنطقة تشكل بقعة كبيرة من جغرافية أسبانيا، حيث تقع بين خمس محافظات: مدريد، وطليطلة، والمدينة الملكية، وقوينقة، والبسيط.

ومن أهم المراكز السياحية هي مدينة الكلاهينارس –قلعة النهر– حيث فيها بيت ثربانتس الذي ولد فيه، وقد حوِّل هذا البيت الآن إلى متحف ثقافي يستقبل مئات الزوار يوميا. وتقع المدينة شرق مدريد على بعد 35 كم في وسط وادي نهر هينارس والذي كان يسمى نهر وادي الحجارة، وهي أرض منبسطة خصبة تكثر فيها الزراعة والرعي، كما تنتشر على ضفاف النهر بعض الغابات الصغيرة.

ولما دخل المسلمون أسبانيا أسسوا في هذه المنطقة حامية عسكرية أطلقوا عليها اسم "قلعة عبد السلام"، وهي محاطة بواد عميق بالإضافة إلى نهر الهينارس الذي يجعل منها قلعة حصينة يصعب الوصول إليها. وآثار هذه المدينة الآن في وضع متردي جدا ونكاد لا نجد شيئا له أهمية كبيرة حيث حولت إلى أنقاض وركام من الأحجار والتراب، ما عدا بعض الأجزاء الظاهرة القليلة من السور وعدد من الأبراج المتهدمة. وتذكر المصادر الأسبانية أنه في القرن الماضي وضعت متفجرات تحت ماتبقى من أبراج وأسوار وهدمت ثم أخذت حجارتها واستخدمت لبناء المساكن.

وعندما سيطر الفنسو السادس على كثير من القلاع في المنطقة الوسطى، مثل مدريد وطلمنكة، بقيت قلعة عبد السلام تحت سيطرة المسلمين إلى حوالي 1120م حيث سقطت بعد ذلك بيد النصارى، ثم أصبحت تابعة إلى أسقفية طليطلة ومركزا دينيا مهما.

أما في مدريد فقد نصبت تماثيل لثربانتس وبطلي رواية دون كيخوته وسانجو في ساحة أسبانيا، كما يوجد في مدريد المعبد الذي دفن فيه ثربانتس والذي يقع في شارع لوبي دي بيغا رقم 18، ويشاهد على واجهته نحوت بارزة وكتابات منها صورة لثربانتس وتاريخ وفاته.

وقد عملت الدولة أيضا دليلا سياحيا وخرائط تبين الطريق الذي سلكه بطل الرواية، حيث أنه مر بعشرات القرى والمدن في منطقة لامانتشا، وأغلب هذه الأماكن هي عربية الأصل لازالت آثارها قائمة إلى اليوم، منها المانسا التي كان يسميها العرب Almanxa  ÙˆØ±Ø¨Ù…ا تعني المغنى، وتقع قريبا من مدينة البسيط. القلعة قائمة على صخرة مرتفعة وكأنها منارة في حالة صلاة تحيط بها غابة من الأشجار مع مجاميع كثيرة من المساكن، ولها برج مربع الشكل عالي البنيان ومنه يمكن الصعود عبر سلم داخلي إلى شرفاته التي نطل منها على جميع أطراف المنطقة بمناظرها ووديانها الخلابة الساحرة .

وهناك مدينة سياحية أخرى تدعى جين جيا واسمها العربي ربما يعني "عين جالوت" حيث لازالت آثارها القديمة بينة، كما لازالت أزقتها الضيقة والملتوية، وكذلك أجزاء من سورها ومعابدها وساحتها الكبيرة. واليوم أعيد ترميم وإصلاح القلعة وأعطيت روحا ونفسا جديدة بحيث أصبحت قبلة السياح وأهل العلم.

كما تبين خارطة الطريق وصول دون كيخوته إلى مدينة عربية جميلة تقع إلى الشمال الشرقي من المدينة الحالية ثيوذاذ ريال، وفيها "قلعة رباح"، أنشأها العرب كقلعة عسكرية بأمر من الخلافة في الاندلس، وأصبحت بعد ذلك خطا دفاعيا للمسلمين ضد هجمات النصارى التي أخذت تزداد بعد سقوط طليطلة سنة 1085. القلعة مربعة الشكل منسجمة الأطراف والعناصر ولها جدران عالية تنتهي بممرات وشرفات، ويمكن الوصول إليها عن طريق سلم داخلي، كما يلاحظ برج كبير لازال محتفضا بصورته القديمة، ويتكون من عدة طوابق فارغة ولكن يوجد في بعضها نوافذ جميلة مع ساريات، وهو طراز عربي يشاهد في الأبراج الإسلامية خاصة في برج سان ميغيل في مدريد.

المنطقة زراعية وتكثر فيها الأنهار الصغيرة ويمر إلى جانبها وادي آنا، كما تشتهر بزراعة العنب وغيره من المنتجات والمحاصيل الزراعية .

وقد استطاع ثربانتس بذكائه الحاد أن يجعل شخصيات روايته من أبناء هذه المناطق التي هي في الواقع خليط من المسلمين والنصارى ولذا فإننا نجد هناك مناخا ثقافيا عاما حيث أحصى أحد الدارسين العرب 35 شخصية إسلامية أو متأثرة بالثقافة الإسلامية في رواية دون كيخوته.

ويعرج كيخوته في تجواله إلى مدينة قديمة يذكر أنها كانت رومانية الأصل ولكن العرب حصنوها ووسعوها وسموها الحمراء وذلك لأن أرضها حمراء وتقع إلى الشرق من ثيوذاذ ريال ، ورغم أن القلعة هي الآن في حالة متردية، كونها مهملة وغير معتنى بها، إلا أنها لازالت قوية ومحتفضة بقوامها القديم وتتمتع بصلابة فريدة وقدرة دفاعية رائعة وتسيطر على مساحة كبيرة من الأراضي الزراعية والسهول والوديان الخضراء التي أصبحت مراكز للراحة والاستجمام.

ثم يصعد دون كيخوته شمالا نحو طليطلة التي كانت عاصمة الغوط سابقا والعرب لاحقا وأصبحت بعد ذلك من أهم المركز الثقافية الأندلسية، كما اشتهرت بالعلوم والترجمة، وكانت مركزا للأديان الثلاثة. وعندما سقطت بيد النصارى أصبحت المرجع الديني الأعلى للنصارى في أسبانيا .

ويواصل بطل الرواية مسيرته فيمر على مدن الكايا دي هينارس، سيغونزا، كوادلاخارا، دون غودينا، لا ألمانيا، كومونذاذ دي كاياتايود، وألاغو. ثم مدن ثرفيرا، فراغا، سراقوسى، الكايي دي إيبرو، بيدرولا وبرشلونة.

وهكذا نجد أنفسنا في رحلة سياحية ممتعة يحملنا فيها ثربانتس مع أبطاله للتعرف على تقاليد وعادات وثقافة وعمارة ذلك المجتمع وبأسلوب فكاهي ترفيهي يحمل في طياته معان كثيرة. ولكن دعونا الآن نتعرف قليلا على هذا العمل الأدبي الرائع من خلال أحد الأدباء الذين تخصصوا في الدراسات الثربانتيسية، وهو الباحث العراقي الدكتور محسن الرملي، وقد سألناه عن مدى تاثيرات الثقافة الإسلامية على دون كيخوته، فقال: "كان ثربانتس على احتكاك دائم بالثقافة الإسلامية طوال حياته سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. وقد كان أسيرا في الجزائر لما يقرب من خمسة أعوام. وقد كتب كل أعماله بعد سنوات الأسر هذه باستثناء قصائد قليلة وضعيفة كتبها في وقت مبكر من حياته، ولانكاد نجد أي عمل من أعماله خاليا من بصمة ما للثقافة الإسلامية سواء كانت على شكل ثيمة رئيسية كمسرحياته التي تدل عليها عناوينها، مثل "معمولات الجزائر" و "حمامات الجزائر" وروايته القصيرة "السلطانة الكبيرة"، أو على شكل مناخ أدبي وأماكن أو شخصيات أو تعبيرات أو حتى كلمات وإشارات.

وفي الكيخوته أحصيت أكثر من 35 شخصية إسلامية أو ذات ثقافة إسلامية، ومنها بالتأكيد شخصية سيدي حامد الراوي الرئيسي للرواية، وأكثر من عشرين مثل شعبي و220 كلمة من أصل عربي، إضافة إلى تأثيرات تاريخية وأدبية ودينية.

كما سألت الدكتور الرملي عن دور الكيخوته في السياحة المعاصرة في أسبانيا، فقال: "كما تعلم فإن الاقتصاد الأسباني قائم في جزء كبير منه على السياحة بحيث يدخلها سنويا ما يقارب الخمسين مليون سائح، ومن أجل إدامة هذه الحركة السياحية، انتبهت أسبانيا مؤخرا بأن عليها ألا تكتفي بتقديم الشمس وسواحل البحار والآثار للسياح لان بلدانا كثيرة صارت تنافسها في هذا الميدان، لذا راحت تعمل بشكل أكبر على ما يسمى بـ"السياحة الثقافية" فصارت تكثر وتوسع من متاحفها مثلا. وبما أن الكيخوته عمل معروف في كل العالم ويعد علامة بارزة لتمثيل الهوية الأسبانية، فقد سعت إلى استثماره أيضا حيث تم تحديد وتأهيل خط سير رحلته ومغامراته وتحديدا في اقليم لامانتشا القريب من مدريد الذي يغري الكثير من الناس في التعرف عليه ، وتم فتح متاحف صغيرة في القرى التي مر بها، كذلك جعل مسقط راس ثربانتس الكلا دي هينارس مركزا ثقافيا يستثمر كل ما هو متعلق بثربانتس ومنها البيت الذي ولد فيه والمعهد الدولي الخاص به."

المعروف أن رواية دون كيخوته صدر الجزء الاول منها سنة 1605 وقد أحدثت ضجة في صفوف الحركة الأدبية في ذلك الوقت وكان عمر ثربانتس حوالي 58 سنة. وفي عصر الطوائف انتقل كثير من المؤلفات المشرقية إلى الاندلس، ويذكر بأنه انتقل مخطوط مقامات الحريري إلى الأندلس وترجم الى اللغة القشتالية قبل ظهور الكيخوته بعدة قرون، علما أن الحريري ألف كتابه في بداية القرن الثاني عشر الميلادي. هذا المناخ الحركي الأدبي والعلمي الأندلسي والمشرقي كان له بطبيعة الحال الأثر الإيجابي على ثقافة شبة جزيرة ايبريا خاصة مؤلفات ثربانتس.

أما الجزء الثاني من الرواية فقد صدر سنة 1615 وفيه نرى المؤلف وقد حاول إعادة تلميع شخصياته، حيث نرى في هذا الجزء أمرا مثيرا للإعجاب، فقد طرح ثربانتس فكرة رائعة وهي أن جعل الشخصيات التي ظهرت في هذا الجزء لديها فكرة مسبقة عن بطل الرواية وأنها قد قرأت عن مغامراته، وعندما يلتقي كيخوته معها يشرح لها من جديد رحلاته وبطولاته الفروسية.

واليوم أصبحت هذه الرواية مصدر إلهام وإبداع للأدباء والفنانين، كما أصبح الطريق الذي سلكه بطل الرواية يغري الكثير من الناس بزيارة هذه المناطق التاريخية والتمتع بمناظرها وسهولها الجميلة.