الجالية العربية الإسلامية في إسبانيا تاريخها، مؤسساته
06/01/2005

مدريد - د. كاظم شمهود طاهر

لعل من المفيد الحديث عن الجالية العربية الإسلامية في إسبانيا وتنوير القارئ بحجم ونشاطات هذه الجالية التي أصبحت تنمو بشكل مطرد مع تقدم الوقت، ولكن في الواقع لا يمكن مقارنتها بمثيلاتها في فرنسا وألمانيا وإنكلترا من حيث العدد والثقل الثقافي والسياسي، فهي تعتبر من الجاليات الصغيرة. ويعود ذلك إلى أسباب كثيرة منها، الوضع السياسي أيام فرانكو حيث كان الحكم دكتاتورياً قمعياً، ثم الوضع الاقتصادي الهش، بالإضافة إلى دور الكنيسة في الحكم وفرض تقاليدها على المجتمع. وبقي ذلك سائداً حتى وفاة فرانكو سنة 1975 وقيام النظام الديمقراطي والانفتاح على العالم والتحول الكبير الذي حدث في المجتمع الإسباني في جميع ميادين المعرفة والتقدم والحرية والفكر والمعتقد.

في أثناء الحرب الأهلية الإسبانية-1936) 1939) كان فرانكو قد اعتمد على المغاربة في حربه ضد الجمهوريين الذين يسمونهم بـ"الحمر" ويعنون بهم الشيوعيين. وبعد انتصاره عليهم أصبح المغاربة يتمتعون بامتيازات كبيرة في الدولة خاصةً الجيش كما أن حرسه الخاص كان مكونا من الفرسان المغاربة، بزيهم المغربي التقليدي. ومن هنا بدأ استيطان الجالية المغربية في إسبانيا والتي تعتبر أول جالية عربية إسلامية تعود إلى بلاد الأندلس بعد أربعة قرون من إخراج العرب.

وبعد موت فرانكو ظهر لأول مرة نظام ديمقراطي علماني ودستور جديد ورد فيه ذكر حرية الفكر والمعتقد خاصةً حرية الأديان. وقد ساعد ذلك كله على ظهور المراكز والجمعيات الثقافية الإسلامية وانتشارها في جميع أطراف البلاد حيثما يتواجد العرب المسلمون.

وفي سنة 1992 بدأ الحوار بين ممثلين عن الجالية العربية الإسلامية والنظام الحاكم وكان الحزب الاشتراكي يومذاك في الحكم يرأسه فيليب غونثالث فاعترفت الحكومة بتدريس مادة الدين الإسلامي في المدارس التي يكثر فيها الطلبة المسلمين. ولكن مع الأسف بقي الموضوع حبراً على ورق ثم ازداد تعقيداً بمجيء الحزب اليميني إلى الحكم سنة 1994 برئاسة خوسيه أثنار، ولكن عندما عاد الاشتراكيون إلى الحكم سنة 2003 تحركت الجالية الإسلامية وعادت من جديد لطرح الموضوع مع الاشتراكيين ولا زال الحوار جارياً.

يصل عدد الجالية الإسلامية في إسبانيا حسب الإحصائيات الرسمية إلى حوالي 600 ألف نسمة ما عدا الذين لم يتم تسجيلهم لأسباب كثيرة. وهم ينتشرون في كل المدن الإسبانية، خاصةً القرى والمدن الصغيرة، ويشتغلون في الزراعة والتجارة والرعي والبناء وغيرها من وسائل العيش والكسب.

وتحدث الهجرة من المغرب إلى إسبانيا يومياً تقريباً، وغالبيتها غير شرعية عبر قوارب صغيرة يطلق عليها (قوارب الموت) حيث يحشر فيها مجاميع من الشباب المغامر الذين ضاقت بهم الحياة في بلادهم فهربوا بحثاً عن العيش والحرية، وكثيراً ما تغرق هذه القوارب في البحر بكل أفرادها، فتترك لوعة، أسفاً وحزناً على هؤلاء الشبان العرب المسلمين.

وهناك ظاهرة مميزة عند المغاربة وهي أنهم أينما حلّوا كوّنوا لهم جمعية أو مركزاً إسلامياً، حتى وإن كان عددهم يعد بالأصابع. واليوم يبلغ عدد المراكز والجمعيات الإسلامية بالمئات وهي موزعة في كل أنحاء إسبانيا، وتوجد في العاصمة مدريد وضواحيها أكثر من 42 جمعية إسلامية، ومن أكبرها وأهمها المركز الثقافي الإسلامي الذي يعتبر من أكبر المراكز الثقافية في أوربا والذي تتبناه المملكة العربية السعودية، وقد بني على الطراز الإسلامي مع عناصر معمارية حديثة وفيه مسجد على الطراز الأندلسي ومدرسة في كل مراحلها الدراسية. وفيه أيضاً مكتبة ضخمة وصالات للعرض والمحاضرات كما أن فيه مطعماً.

أما المركز الثقافي الثاني فهو مسجد أبي بكر الذي يقع في شارع أنا ستراسيو هريو في العاصمة مدريد وكان جمعية إسلامية متواضعة تأسست في مطلع السبعينات على يد بعض الطلبة المهاجرين من بلاد المشرق، ويشرف عليه المفكر والباحث الإسلامي رياج الططري الذي يعتبر ممثل الجالية الإسلامية في إسبانيا. وقد كان الططري قد درس الطب ثم تبنى مسؤولية الجمعية الإسلامية في مدريد وله بحوث كثيرة عن الإسلام والفكر الغربي وتحاور الحضارات ولا زال يكتب ويلقي المحاضرات القيمة التي تنبع من مخزون ثقافي تنويري حضاري.

وهناك مركز ثقافي آخر في مدريد وهو المعهد العربي المصري ويحتوي على مكتبة تضم آلاف الكتب كما تقام فيه النشاطات الثقافية والسياسية والفنية وغيرها، ويعتبر هذا المعهد من أكبر المعاهد العربية في أوربا.

كما يوجد مركز ثقافي آخر في مدريد يسمى المعهد الإسباني العربي وهو مؤسسة ثقافية علمية تهتم بالتعاون وتبادل الخبرات الثقافية بين العالم العربي وإسبانيا، كما تقام فيه المحاضرات والاحتفالات وغيرها من وجوه التعاون والصداقة بين هذه الشعوب.

وأيضاً من المراكز الثقافية التاريخية القديمة التي يُشد إليها الرحال من قبل أهل العلم هي مكتبة الأسكريال حيث جمعت فيها آلاف المخطوطات العربية الإسلامية في زمن الملك فيليب الثاني (1556-1598) والتي أفلتت من نيران الصليبين، ولكن في سنة 1671 تعرضت هذه المكتبة للحريق فذهبت ثلاثة أرباع المخطوطات العربية التي تعتبر عصارة الفكر والعلم العربي الإسلامي في هذه البلاد، ولم يبق منها اليوم إلا ألفي مخطوط والذي لا زال شاهداً على ما لعلماء إسبانيا المسلمة من باع في مختلف العلوم والمعارف، ويقع دير الأسكريال شمال غرب مدريد على بعد حوالي 60 كم.

شخصيات ونشاطات ثقافية

نتيجة للنمو والتطور الذي يحدث للجالية الإسلامية في إسبانيا وتحصيل أبنائها على مختلف صنوف المعارف والعلوم والشهادات العليا فإنه من الطبيعي أن تظهر بعض الأنشطة الثقافية ويبرز عدد من الشخصيات الأدبية التي أخذت تنقل الأدب والثقافة الإسلامية إلى المجتمع الإسباني كما أنها تقوم بدور الترجمة من الأدب الإسباني إلى العربي. ومن هذه الشخصيات البارزة الأستاذ محمود صبح وهو شاعر وكاتب وأستاذ في جامعة مدريد وله عدة مترجمات من الإسباني إلى العربي مثل "مختارات من الأدب الإسباني". وسعيد العلمي وهو صحفي وروائي له عدة روايات أدبية مثل "المؤتمر" و"مريم" وغيرها وهو يعمل الآن مراسل لوكالة الأخبار الكويتية. وكذلك عبد الهادي سعدون ومحسن الرملي وهما من أبرز الشباب العراقي المثقف ويديران الآن دارا للنشر ومجلة تدعى "ألواح" تصدر باللغة العربية، كما أن لهما عدة كتابات في الرواية والترجمة، ولا زالا يعملان للصحافة العربية والإسبانية. والسيد كمال حلاة وهو طبيب وكاتب صحفي يشرف على مجلة تدعى "الفجر" تصدر باللغة الإسبانيةوقد كانت ولا زالت تنشر لي رسوما كاريكاتيرية منذ عدة سنوات. وهناك مجلة أخرى تدعى "الأندلس" تصدر باللغة العربية يشرف عليها السيدان نائل الكحلوت ونظمي يوسف وهما كاتبان صحفيان بارزان والمجلة صدرت منذ عدة سنوات وتهتم بشؤون الجالية العربية والإسلامية في إسبانيا وتصدر مرة واحدة كل شهر.

أما الجالية العراقية في إسبانيا فهي صغيرة وغالبية أفرادها هم من أصحاب الشهادات العليا كما أن أكثرهم يشتغل في التجارة. وقبل سنوات أسست جمعية ثقافية تدعى "جمعية أهل البيت الثقافية" وهي مرخصة من قبل الدولة ولها مقرها الثابت حيث تقام فيه النشاطات الثقافية والدينية خاصة أيام شهر رمضان المبارك وأيام عاشوراء.

هناك تجمع عراقي آخر يدعى "المنتدى العراقي" حيث قام بعدة نشاطات ثقافية منها الأسبوع الثقافي العراقي ومعرض الكتاب العراقي ومعرض لرسوم الأطفال وغيرها، كما يصدر مجلة دورية تدعى "المنتدى" ويرأس هذا التجمع الفنان رضا محسن.

كما برز عدد من الفنانين العرب في إسبانيا وأصبحوا اليوم من كبار الفنانين في بلدانهم وفي إسبانيا منهم أحمد نوار من مصر وعبد العزيز أبو نالي من المغرب وفائق حسين من العراق ومنير سلام من بنغلادش، وقد درس هؤلاء الفنون في مطلع السبعينات في جامعة مدريد.

ثم ظهر عدد آخر من الفنانين العرب خاصة العراقيين الذين وصل عددهم إلى حوالي 20 رساماً وقد أسسوا لهم جمعيات فنية مثل "جماعة بغداد للفن المعاصر"، كما أصدروا عددا من المجلات مثل "تجريب" وقاموا بعدة معارض وكذلك الاشتراك مع التجمعات الفنية الإسبانيةالأخرى في مختلف الأنشطة الثقافية .

واليوم يتجمع عدد من هؤلاء الرسامين العرب في ساحة تدعى الميدان الكبير لبيع انتاجاتهم الفنية خاصة رسم الكاريكاتير الفكاهي. وهي ساحة تاريخية قديمة أنشأها العرب خارج أسوار مدريد وكانت تسمى "ساحة الربض" حيث كان يباع فيها المواشي والمنتجات الزراعية وغيرها.

واليوم هي من أجمل مناطق مدريد السياحية حيث تحيط بها المقاهي والمحلات التجارية التي تباع فيها التحف الفنية ذات التقاليد المدريدية كما تقام فيها الاحتفالات الوطنية والدينية.