جامع موسكو يحتفل بمئويته
22/05/2004

إسلام أونلاين 18/05/2004

راديك عميروف

ستقام في العاصمة الروسية في الفترة من 26 إلى 28 مايو (أيار) الجاري احتفالية رسمية احتفاء بالذكرى الـ100 لإنشاء جامع موسكو. وسيحضر الاحتفالية أركان السلطة التنفيذية والتشريعية العليا والشخصيات الاجتماعية ورجال الدين من كافة الطوائف في روسيا.

ويتوقع أن يشارك فيها كبار الضيوف الأجانب. وسيعقد في الأيام نفسها مؤتمر "الإسلام دين السلام" كما سيقام في جامع موسكو بعد الصلاة في 28 مايو حفل وضع حجر الأساس لتوسعة المسجد. وتمثل الاحتفالية القادمة فرصة هامة لإظهار وحدة شعوب روسيا التي تحتضن الجماعات الإثنية والدينية المتعددة.

بين المسيحية والإسلام

ويعيش المسلمون والمسيحيون جنبا إلى جنب في روسيا منذ ما يزيد عن ألف سنة؛ فقد اعتنقت روسيا المسيحية في عام 988. وأتى العرب بالإسلام إلى شمال القوقاز في النصف الثاني من القرن السابع. واعتنق سكان الإقليم الذي يعرف الآن باسم "تتارستان" (حوض نهر الفولغا) الإسلام في عام 921 (أو 922) بتشجيع من الدعاة الذين أوفدتهم دولة الخلافة في بغداد. وظهر الإسلام في سيبيريا، وهو إقليم روسي آخر، خلال القرن الـ13.

وتحتضن روسيا البالغ عدد سكانها اليوم 144 مليون شخص، منهم قرابة 20 مليون مسلم ينتمون إلى 40 جماعة إثنية. والتتار هم الأكثر عددا بين المسلمين الروس (أكثر من 5 ملايين شخص، أو 4% من مجموع السكان في روسيا). ويليهم البشكير (أكثر من مليون شخص) والشيشان (حوالي مليون شخص).

وظهر التتار في موسكو لأول مرة كسكان لهذه المدينة في مطلع القرن الـ15. وظهرت حينذاك في العاصمة الروسية مصليات.

تاريخ المساجد في روسيا

وتفيد سجلات التاريخ بأن أول مسجد ظهر في موسكو عام 1782، وكان عبارة عن منشأة مصنوعة من الخشب. وفي الربع الأول من القرن الـ19 أقيم في إحدى نواحي موسكو تحمل اسم "زاموسكفوريتشيه" مسجد أطلق عليه اسم "المسجد التاريخي"، وذلك إكراما للمقاتلين المسلمين من التتار والبشكير الذين اشتركوا في الحرب ضد نابليون. وسرعان ما تم توسيع المسجد، وألحقت به مدرسة. إلا أن المسجد لم يتسع لمسلمي موسكو. فضلا عن ذلك واجه بعض المسلمين صعوبة في الوصول إلى المسجد من نواحي موسكو الأخرى.

لهذا تقدم التتار المقيمون في حي ميشانسكي -اعتبارا من عام 1894- بأكثر من طلب لإقامة مسجد آخر، إلا أن سلطات المدينة ماطلت في تلبية الطلب بحجج شتى. وصدر قرار بشأن إقامة المسجد في كانون الأول (ديسمبر) 1903 بعدما تقدم اثنان من رجال الأعمال الكبار -اسم أحدهما باكروف، واسم الآخر أكبولاتوف- من مدينة قاسموف بطلب جديد مذيل بتوقيعات علماء الدين من مدينة "أوفا"؛ حيث مقر القيادة الروحية للمسلمين الروس حينذاك. وأقيم المسجد بأموال التاجر التتاري صالح يرزي.

وتم إنجاز أعمال التصميم الهندسي خلال أربعة شهور. وبدأ العمل في إنشاء المسجد الجديد في 25 حزيران (يونيو) 1904. وأخذت أعمال البناء إيقاعا سريعا لا مثيل له؛ فقدم الإمام بدر الدين عالموف بعد 5 شهور في 27 تشرين الثاني  (نوفمبر) 1904 طلبا إلى سلطات المدينة، مناشدا إياها السماح بافتتاح المسجد. ولبت سلطات موسكو الطلب في الحال.

وجرى العمل في إنشاء المسجد في فترة الحرب الروسية اليابانية (1904-1905)، ويظن بعض المؤرخين أن المسجد أقيم إكراما للمسلمين الروس الذين اشتركوا في تلك الحرب. وأعربت السلطات الروسية بذلك عن مشاعر التقدير والامتنان لرعاياها المسلمين، وهو أمر في غاية الأهمية في ذلك الوقت حينما شهدت روسيا اضطرابات ابتداء من عام 1905.

مسلمو روسيا بين مد وجزر

وشهدت الحركة القومية التتارية الإسلامية وقتذاك تطورا وازدهارا. فقد اختير 22 مسلما ينتمون إلى حزب "اتفاق المسلمين" لعضوية مجلس النواب (دوما) لروسيا عام 1906. وبُدئ بإصدار الصحف باللغة التتارية وغيرها من لغات الشعوب المسلمة في قازان وأورنبورغ، وهما المدينتان اللتان عاش فيهما الزعماء الروحيون للمسلمين الروس، وأيضا في سان بطرسبورغ وموسكو.

وفرض الحظر على جميع الحركات القوميات والدينية في روسيا بعد ثورة 1917، وتم اعتقال الكثير من الشخصيات الدينية بمن فيهم المسلمون. وتم تدمير كثير من المعابد المسيحية واليهودية والمساجد في الاتحاد السوفيتي. وخضعت المعابد التي لم تغلق ولم تدمر لرقابة السلطات.

ووجد في روسيا في مطلع القرن الـ20 حوالي 12 ألف مسجد، في حين وجد في الاتحاد السوفيتي في أواسط حقبة الثمانينيات من القرن الماضي 343 مسجدا تركز معظمها في آسيا الوسطى.

وأغلق "المسجد التاريخي" بموسكو في الثلاثينيات من القرن الماضي. واعتقل الإمام عبد الله شمس الدينوف، ثم اغتيل بعد إدانته على أساس تهم ملفقة تزعم أنه اعتزم تفجير 3 مصانع ومحطات القطار وجسور. واعتقل غيره من الأئمة في موسكو. وانتزع "المسجد التاريخي" من المسلمين.

أما بالنسبة للمسجد الآخر الحديث نسبيا -وهو جامع موسكو- فلعله نجا من دمار الحرب التي اشتعلت نيرانها عندما اعتدت ألمانيا الفاشية على الاتحاد السوفيتي عام 1941. وأمام الغزو وقف الشعب السوفيتي يدا واحدة. ودعا الكثير من علماء الدين رعاياهم إلى بذل قصارى الجهد لدحر الغزاة.

وانضم ملايين المسلمين إلى الجيش السوفيتي. وأكرمت الدولة الكثيرين منهم بمنحهم الأوسمة. وبعث الزعيم السوفيتي ستالين ببرقية شكر إلى الزعيم الروحي لمسلمي الشطر الأوربي من الاتحاد السوفيتي وسيبيريا عبد الرحمن رسوليف الذي قام المسلمون السوفيت بناء على مبادرة منه بتشكيل رتل كامل من المدرعات ليحارب الغزاة. وأطلق عليه اسم "الرتل الإسلامي" رغم أنه ضم المقاتلين من أتباع الديانات الأخرى أيضا.

وبعد دحر الفاشية، ومع بداية الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي والغرب استخدمت الحكومة السوفيتية جامع موسكو في حملتها الدعائية.

وبدأت موسكو بتنمية العلاقات مع بلدان الشرق في الخمسينيات من القرن الماضي. وجرى العرف على أن يزور زعماء هذه البلدان أثناء زيارتهم للاتحاد السوفيتي جامع موسكو. وصلى فيه الرئيس المصري جمال عبد الناصر، والرئيس الإندونيسي سوكارنو، وقائد الثورة الليبية معمر القذافي، والكثير غيرهم من قادة الدول الأفريقية والآسيوية.

وظل قادة الدول الأجنبية الزائرون للعاصمة الروسية يؤمون جامع موسكو بعد تفكك الاتحاد السوفيتي. واستقبل الشيخ راوي عين الدين الزعيم الروحي لمسلمي الشطر الأوربي من روسيا الرئيس الإيراني محمد خاتمي، ورئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، ورئيس الوزراء الماليزي محاضير محمد في الفترة الأخيرة.

صحوة إسلامية جديدة

ويستطيع قادة الدول الإسلامية الزائرون لروسيا اليوم أن يشهدوا صحوة إسلامية لم تألفها روسيا من قبل؛ فعدد المساجد بحلول عام 2000 كاد يعادل عدد المساجد الموجودة في روسيا قبل ثورة 1917. وتوجد في موسكو وحدها 6 مساجد. ومع ذلك يبقى جامع موسكو قبلة المسلمين الروس. ويأتي عشرات الألوف من أنحاء روسيا المختلفة إلى موسكو ليصلوا في المسجد الرئيسي فيها.

ويتخذ جامع موسكو مقرا لمجلس المفتين بروسيا الذي يترأسه الشيخ رافيل عين الدين. وتتبع لجامع موسكو جامعة موسكو الإسلامية التي يترأسها "مراد مرتضين". وتقام فيه دورات متخصصة لتعلم اللغة التتارية واللغة العربية وأصول الإسلام. وينخرط بالدورات الكبار والصغار على نحو سواء.

وتصدر القيادة الروحية لمسلمي الشطر الأوربي من روسيا التي تتبع مجلس المفتين صحيفة "منبر الإسلام"، وأيضا الكتب بما فيها الكتب المدرسية. ولمجلس المفتين موقعه على شبكة الإنترنت ، ويوجد في باحة جامع موسكو محل بيع لحوم الحلال.

وتبحث سلطات موسكو والسلطات الفيدرالية في زيادة مساحة جامع موسكو. وهناك اقتراحات تدعو إلى تقديم المساعدة المالية إلى المساجد الأخرى. ولا عجب أن تهتم سلطات العاصمة الروسية بالمساجد؛ ففي موسكو حوالي مليونين من المسلمين، وبلغ مجموع السكان الدائمين في مدينة موسكو في 1 كانون الثاني/يناير 2003 ثمانية ملايين و533 ألف شخص.

وتأتي هذه المشاريع بمثابة هدية ثمينة للمسلمين الروس بمناسبة الذكرى المئوية لإنشاء جامع موسكو. كما يؤكد ذلك على كون المسلمين أسوة بغيرهم من مواطني روسيا سواسية في الحقوق، كما أشار إلى ذلك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي نبه مرارا إلى ضرورة الاهتمام والاعتناء بالمسلمين.